الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} قوله تعالى{أوكلما عاهدوا عهدا} الواو واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله قوله تعالى{نبذه فريق منهم{ النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ، قال أبو الأسود: نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا آخر: وهذا مثل يضرب لمن استخف بالشيء فلا يعمل به، تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك، ودبرا منك، وتحت قدمك، أي اتركه وأعرض عنه، قال الله تعالى قوله تعالى{بل أكثرهم{ ابتداء. {لا يؤمنون{ فعل مستقبل في موضع الخبر. {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} قوله تعالى{ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} نعت لرسول، ويجوز نصبه على الحال. {نبذ فريق} جواب {لما} {من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم} نصب بـ {نبذ} والمراد التوراة، لأن كفرهم بالنبي عليه السلام وتكذيبهم له نبذ لها. قال السدي: نبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. وقيل: يجوز أن يعني به القرآن. قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه، ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ. وقد تقدم بيانه مستوفا. {كأنهم لا يعلمون{ تشبيه بمن لا يعلم إذ فعلوا فعل الجاهل فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم. {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} قوله تعالى {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. ..} قوله تعالى{واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان{ هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا، وهم اليهود. وقال السدي: عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت. وقال محمد بن إسحاق: لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم: يزعم محمد أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله عز وجل{وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا{ أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا. وقال الكلبي: كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس: إنما ملككم بهذا فتعلموه، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان! وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال{واتبعوا ما تتلوا الشياطين{. قال عطاء{تتلو{ تقرأ من التلاوة. وقال ابن عباس{تتلو{ تتبع، كما تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا. وقال الطبري{اتبعوا{ بمعنى فضلوا. قلت: لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره، ومعنى {تتلو{ يعني تلت، فهو بمعنى المضي، قال الشاعر: وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخادم وذبائح أي فلقد كان. و{ما{ مفعول بـ {اتبعوا{ أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته. وقيل{ما{ نفي، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته، قال ابن العربي. {على ملك سليمان{ أي على شرعه ونبوته. قال الزجاج: قال الفراء على عهد ملك سليمان. وقيل: المعنى في ملك سليمان، يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء: تصلح على وفي، في مثل هذا الموضع. وقال {على{ ولم يقل بعد لقوله تعالى قوله تعالى{وما كفر سليمان{ تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر. {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر{ فأثبت كفرهم بتعليم السحر. و{يعلمون{ في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان. وقرأ الكوفيون سوى عاصم {ولكن الشياطين{ بتخفيف {لكن{، ورفع النون من {الشياطين{، وكذلك في الأنفال السحر، قيل: السحر أصله التمويه والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه. وقيل: هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وكذلك إذا عللته، والتسحير مثله، قال لبيد: آخر: عصافير وذبان ودود وأجرأ من مجلحة الذئاب وقوله تعالى واختلف هل له حقيقة أم لا، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له: أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له، وعند الشافعي وسوسة وأمراض. قال: وعندنا أصله طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر. قلت: وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء، على ما يأتي. ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة. والشعوذي: البريد لخفة سيره. قال ابن فارس في المجمل: الشعوذة ليست من كلام أهل البادية، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر، ومنه ما يكون كلاما يحفظ، ورقى من أسماء الله تعالى. وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك. سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا، فقال: قلت: وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا: أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا) فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق. وهذا بين، والحمد لله. من السحر ما يكون كفرا من فاعله، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس، وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه، قاله أبو نصر عبدالرحيم القشيري. قال أبو عمرو: من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة، فيجعل الإنسان حمارا أو نحوه، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة إذ قد يحصل مثلها بالحيلة. وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به. ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة. وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإسترابادي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة، كما قال تعالى قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك. ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك، ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا، ولا يكون الساحر مستقلا به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء. روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل في أست الحمار ويخرج من فيه، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب - هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي - وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم: أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه. في الفرق بين السحر والمعجزة، قال علماؤنا: السحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد. والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها، كما تقدم في مقدمة الكتاب. واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته، لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني، ولأن الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله{وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر{ وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة. وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: قلت: وهذا صحيح، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف. والله تعالى اعلم. وقال بعض العلماء: إن قال أهل الصناعة أن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير، والله تعالى اعلم. وروي عن الشافعي: لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل، وإن قال لم أتعمده لم يقتل، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر. قال ابن العربي: وهذا باطل من وجهين، أحدهما: أنه لم يعلم السحر، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات. الثاني: أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال{وما كفر سليمان{ بقول السحر {ولكن الشياطين كفروا{ به وبتعليمه، وهاروت وماروت يقولان{إنما نحن فتنة فلا تكفر} وهذا تأكيد للبيان. احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته، لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا، قال مالك: فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما، والحجة لذلك قوله تعالى وأما ساحر الذمة، فقيل يقتل. وقال مالك: لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه. وقال ابن خويز منداد: فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك، فقال مرة: يستتاب وتوبته الإسلام. وقال مرة: يقتل وإن أسلم. وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم: يستتاب وتوبته الإسلام. وقال مرة: يقتل ولا يستتاب كالمسلم. وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر: يعاقب، إلا أن يكون قتل بسحره، أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره. وقال غيره: يقتل، لأنه قد نقض العهد. ولا يرث الساحر ورثته، لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا. وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها: تنكل ولا تقتل. واختلفوا هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور، فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري. وقال الشعبي: لا بأس بالنشرة. قال ابن بطال: وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به، إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه، ونص الشرع على ثبوته، قال الله تعالى{ولكن الشياطين كفروا{ وقال{ومن الشياطين من يغوصون له}الأنبياء: 82] إلى غير ذلك من الآي، وسورة {الجن{ تقضي بذلك، وقال عليه السلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس، وأحالوا روحين في جسد، والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم، ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء. قوله تعالى{وما أنزل على الملكين} {ما{ نفي، والواو للعطف على قوله{وما كفر سليمان{ وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله{ولكن الشياطين كفروا{. هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله تعالى إن قال قائل: كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل، فالجواب من وجوه ثلاثة: الأول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، كما قال تعالى قلنا: هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن{الملكين{ بكسر اللام. قال ابن أبزى: هما داود وسليمان. {فما{ على هذا القول أيضا نافية، وضعف هذا القول ابن العربي. وقال الحسن: هما علجان كانا ببابل ملكين، فـ {ما{ على هذا القول مفعولة غير نافية.. قوله تعالى{ببابل{ بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة، وهي قطر من الأرض، قيل: العراق وما والاه. وقال ابن مسعود لأهل الكوفة: أنتم بين الحيرة وبابل. وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين. وقال قوم: هي بالمغرب. قال ابن عطية: وهذا ضعيف. وقال قوم: هو جبل نهاوند، فالله تعالى اعلم. واختلف في تسميته ببابل، فقيل: سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ. وقيل: سمي به لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل، فبلبل الله ألسنتهم بها، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد. والبلبلة: التفريق، قال معناه الخليل. وقال أبو عمر بن عبدالبر: من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض. روى عبدالله بن بشر المازني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى{هاروت وماروت{ لا ينصرف {هاروت{، لأنه أعجمي معرفة، وكذا {ماروت{، ويجمع هواريت ومواريت، مثل طواغيت، ويقال: هوارتة وهوار، وموارتة وموار، ومثله جالوت وطالوت، فاعلم. وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما؟ خلاف. قال الزجاج: وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال: أي والذي أنزل على الملكين، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه. قال الزجاج: وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه. والذي أنزل عليهما هو النهي، كأنه قولا للناس: لا تعملوا كذا، فـ {يعلمان{ بمعنى يعلمان، كما قال{ولقد كرمنا بني آدم{ أي أكرمنا. قوله تعالى{وما يعلمان من أحد{ {من{ زائدة للتوكيد، والتقدير: وما يعلمان أحدا. والضمير في {يعلمان{ لهاروت وماروت. وفي {يعلمان{ قولان، أحدهما: أنه على بابه من التعليم. الثاني: أنه من الإعلام لا من التعليم، فـ {يعلمان{ بمعنى يعلِمْان، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم، ذكره ابن الأعرابي وابن الأنباري. قال كعب بن مالك. وقال القطامي: وقال زهير: وقال آخر: {حتى يقولا{ نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون، ولغة هذيل وثقيف {عتى{ بالعين المعجمة. {إنما نحن فتنة{ لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها. {فلا تكفر{ قالت فرقة بتعليم السحر، وقالت فرقة باستعماله. وحكى المهدوي أنه استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلال. قوله تعالى: {... فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} قوله تعالى{فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه{ قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، قال ومثله {كن فيكون{. وقيل: هو معطوف على موضع {ما يعلمان{، لأن قوله{وما يعلمان{ وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم. وقال الفراء: هي مردودة على قوله{يعلمون الناس السحر{ فيتعلمون، ويكون {فيتعلمون{ متصلة بقول {إنما نحن فتنة{ فيأتون فيتعلمون. قال السدي: كانا يقولان لمن جاءهما: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فإن أبى أن يرجع قالا له: ائت هذا الرماد فبل فيه، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء، وهو الإيمان، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه. ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة: ذلك خرج على الأغلب، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة، وقد تقدم هذا، والحمد الله. قوله تعالى{وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله{ {ما هم{، إشارة إلى السحرة. وقيل إلى اليهود، وقيل إلى الشياطين. {بضارين به{ أي بالسحر. {من أحد{ أي أحدا، ومن زائدة. {إلا بإذن الله{ بإرادته وقضائه لا بأمره، لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها. وقال الزجاج{إلا بإذن الله{ إلا بعلم الله. قال النحاس: وقول أبي إسحاق {إلا بإذن الله{ إلا بعلم الله غلط، لأنه إنما يقال في العلم أذن، وقد أذنت أذنا. ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا. قوله تعالى{ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم{ يريه في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا. وقيل: يضرهم في الدنيا، لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه، لأنه يؤدب ويزجر، ويلحقه شؤم السحر. وباقي الآي بين لتقدم معانيها. {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق{ واللام في {ولقد علموا{ لام توكيد. {لمن اشتراه{ لام يمين، وهي للتوكيد أيضا. وموضع {من{ رفع بالابتداء، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيعمل بعدها. و{من{ بمعنى الذي. وقال الفراء. هي للمجازاة. وقال الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، و{من{ بمعنى الذي، كما تقول: لقد علمت، لمن جاءك ما له عقل. {من خلاق{ {من{ زائدة، والتقدير ما له في الآخرة خلاق، ولا تزاد في الواجب، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: تكون زائدة في الواجب، واستدلوا بقوله تعالى قوله تعالى{ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون{ فأخبر أنهم لا يعلمون، فالجواب وهو قول قطرب والأخفش: أن يكون الذين يعلمون الشياطين، والذين شروا أنفسهم - أي باعوها - هم الإنس الذين لا يعلمون. قال الزجاج وقال علي بن سليمان: الأجود عندي أن يكون {ولقد علموا{ للملكين، لأنهما أولى بأن يعلموا. وقال{علموا{ كما يقال: الزيدان قاموا. وقال الزجاج: الذين علموا علماء اليهود، ولكن قيل{لو كانوا يعلمون{ أي فدخلوا في محل من يقال له: لست بعالم، لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر. {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} قوله تعالى{ولو أنهم آمنوا واتقوا} أي اتقوا السحر. {لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} المثوبة الثواب، وهي جواب {ولو أنهم آمنوا} عند قوم. قال الأخفش سعيد: ليس لـ {لو} هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لأثيبوا. وموضع {أن} من قوله{ولو أنهم} موضع رفع، أي لو وقع إيمانهم، لأن {لو} لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا، لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بد له من جواب، و{أن}يليه فعل. قال محمد بن يزيد: وإنما لم يجاز بـ {لو} لأن سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل، فلما لم يكن هذا في {لو{ لم يجز أن يجازى بها. {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} ذكر شيئا آخر من جهالات اليهود والمقصود نهي المسلمين عن مثل ذلك. وحقيقة {راعنا} في اللغة أرعنا ولنرعك، لأن المفاعلة من اثنين، فتكون من رعاك الله، أي احفظنا ولنحفظك، وارقبنا ولنرقبك. ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك، أي فرغ سمعك لكلامنا. وفي المخاطبة بهذا جفاء، فأمر المؤمنين أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أرقها. قال ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا. على جهة الطلب والرغبة - من المراعاة - أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سبا، أي اسمع لا سمعت، فاغتنموها وقالوا: كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا، فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه. في هذه الآية دليلان: قلت: فهذه هي الأدلة التي لنا على سد الذرائع، وعليه بنى المالكية كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها. وليس عند الشافعية كتاب الآجال. لأن ذلك عندهم عقود مختلفة مستقلة، قالوا: وأصل الأشياء على الظواهر لا على الظنون. والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها، وهذا هو الربا بعينه، فاعلمه. {لا تقولوا راعنا{ نهي يقتضي التحريم، على ما تقدم. وقرأ الحسن {راعنا{ منونة. وقال: أي هجرا من القول، وهو مصدر ونصبه بالقول، أي لا تقولوا رعونة. وقرأ زر بن حبيش والأعمش {راعونا{، يقال لما نتأ من الجبل: رعن، والجبل أرعن. وجيش أرعن أي متفرق. وكذا رجل أرعن، أي متفرق الحجج وليس عقله مجتمعا، عن النحاس. وقال ابن فارس: رعن الرجل يرعن رعنا فهو أرعن، أي أهوج. والمرأة رعناء. وسميت البصرة رعناء لأنها تشبه برعن الجبل، قال ابن دريد ذلك، وأنشد للفرزدق: قوله تعالى{وقولوا انظرنا{ أمروا أن يخاطبوه صلى الله عليه وسلم بالإجلال، والمعنى: أقبل علينا وانظر إلينا، فحذف حرف التعدية، كما قال: أي إلى الأراك. وقال مجاهد: المعنى فهمنا وبين لنا. وقيل: المعنى انتظرنا وتأن بنا، قال: والظاهر استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى راعنا، فبدلت اللفظة للمؤمنين وزال تعلق اليهود. وقرأ الأعمش وغيره {انظرنا{ بقطع الألف وكسر الظاء، بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك، قال الشاعر: قوله تعالى{واسمعوا وللكافرين عذاب أليم{ لما نهى وأمر جل وعز، حض على السمع الذي في ضمنه الطاعة واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما. {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} قوله تعالى{ما يود} أي ما يتمنى، وقد تقدم. {الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} معطوف على {أهل} ويجوز: ولا المشركون، تعطفه على الذين، قاله النحاس. {أن ينزل عليكم من خير من ربكم} {من }زائدة، {خير} اسم ما لم يسم فاعله. و{أن} في موضع نصب، أي بأن ينزل. قوله تعالى{والله يختص برحمته من يشاء} قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه{يختص برحمته} أي بنبوته، خص بها محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال قوم: الرحمة القرآن. وقيل: الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا، يقال: رحم يرحم إذا رق. والرحم والمرحمة والرحمة بمعنى، قال ابن فارس. ورحمة الله لعباده: إنعامه عليهم وعفوه لهم. قوله تعالى{والله ذو الفضل العظيم{ {ذو{ بمعنى صاحب. {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فيها خمس عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها} {ننسها} عطف على {ننسخ} وحذفت الياء للجزم. ومن قرأ {ننسأها} حذف الضمة من الهمزة للجزم، وسيأتي معناه. {نأت} جواب الشرط، وهذه آية عظمى في الأحكام. وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله الثانية: معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس، فقال: ليس برجل يذكر الناس! لكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟! فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى: أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت!. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما. الثالثة: النسخ في كلام العرب على وجهين: [ أحدهما] النقل، كنقل كتاب من آخر. وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى الثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما: إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله تعالى{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها{. وفي صحيح مسلم: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى قلت: ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة {الأحزاب{ كانت تعدل سورة البقرة في الطول، على ما يأتي مبينا هناك إن شاء الله تعالى. ومما يدل على هذا الرابعة: أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة. وأنكرته أيضا طوائف من اليهود، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه. ثم حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان، وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره، وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له: لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وبأن نبوته غير متعبد بها قبل بعثه، ثم تعبد بها بعد ذلك، إلى غير ذلك. وليس هذا من باب البداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم، لضرب من المصلحة، إظهارا لحكمته وكمال مملكته. ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالما بمآل الأمور، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى. وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا، ولذلك لم يجوزوه فضلوا. قال النحاس: والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالا فيحرم، أو كان حراما فيحلل. وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه، كقولك: امض إلى فلان اليوم، ثم تقول لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الأول، وهذا يلحق البشر لنقصانهم. وكذلك إن قلت: ازرع كذا في هذه السنة، ثم قلت: لا تفعل، فهو البداء. الخامسة: اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا تجوزا، إذ به يقع النسخ، كما قد يتجوز فيسمى المحكوم فيه ناسخا، فيقال: صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، فالمنسوخ هو المزال، والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة، وهو المكلف. السادسة: اختلفت عبارات أئمتنا في حد الناسخ، فالذي عليه الحذاق من أهل السنة أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا، هكذا حده القاضي عبدالوهاب والقاضي أبو بكر، وزادا: لولاه لكان السابق ثابتا، فحافظا على معنى النسخ اللغوي، إذ هو بمعنى الرفع والإزالة، وتحرزا من الحكم العقلي، وذكر الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيره، وليخرج القياس والإجماع، إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما. وقيدا بالتراخي، لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله، كقولك: قم لا تقم. السابعة: المنسوخ عند أئمتنا أهل السنة هو الحكم الثابت نفسه لا مثله، كما تقوله المعتزلة بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل. والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مراده، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله حسن، وهذا قد أبطله علماؤنا في كتبهم. الثامنة: اختلف علماؤنا في الأخبار هل يدخلها النسخ، فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى. وقيل: إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه، كقوله تعالى التاسعة: التخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناول العموم قط، ولو ثبت تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا، والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا. العاشرة: اعلم أنه قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق، ويرد تقييدها في موضع آخر فيرتفع ذلك الإطلاق، كقوله تعالى الحادية عشرة: قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: جائز نسخ الأثقل إلى الأخف، كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين. ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل، كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، على ما يأتي بيانه في آية الصيام. وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة، كالقبلة. وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى. وينسخ القرآن بالقرآن. والسنة بالعبارة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي. وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد. وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله عليه السلام: والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، كما يأتي بيانه في تحويل القبلة. والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس، على ما يأتي بيانه في {الإسراء{ و{الصافات{، إن شاء الله تعالى. الثانية عشر: لمعرفة الناسخ طرق، منها - أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، كقوله عليه السلام: الثالثة عشرة: قرأ الجمهور {ما ننسخ{ بفتح النون، من نسخ، وهو الظاهر المستعمل على معنى: ما نرفع من حكم آية ونبقي تلاوتها، كما تقدم. ويحتمل أن يكون المعنى: ما نرفع من حكم آية وتلاوتها، على ما ذكرناه. وقرأ ابن عامر {ننسخ{ بضم النون، من أنسخت الكتاب، على معنى وجدته منسوخا. قال أبو حاتم: هو غلط: وقال الفارسي أبو علي: ليست لغة، لأنه لا يقال: نسخ وأنسخ بمعنى، إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا، كما تقول: أحمدت الرجل وأبخلته، بمعنى وجدته محمودا وبخيلا. قال أبو علي: وليس نجده منسوخا إلا بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ. وقيل{ما ننسخ{ ما نجعل لك نسخه، يقال: نسخت الكتاب إذا كتبته، وانتسخته غيري إذا جعلت نسخه له. قال مكي: ولا يجوز أن تكون الهمزة للتعدي، لأن المعنى يتغير، ويصير المعنى ما ننسخك من آية يا محمد، وإنساخه إياها إنزالها عليه، فيصير المعنى ما ننزل عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، فيؤول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتى بخير منها، فيصير القرآن كله منسوخا وهذا لا يمكن، لأنه لم ينسخ إلا اليسير من القرآن. فلما امتنع أن يكون أفعل وفعل بمعنى إذ لم يسمع، وامتنع أن تكون الهمزة للتعدي لفساد المعنى، لم يبق ممكن إلا أن يكون من باب أحمدته وأبخلته إذا وجدته محمودا أو بخيلا. الرابعة عشرة: قوله تعالى{أو ننسها{ قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز، وبه قرأ عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وابن محيصن، من التأخير، أي نؤخر نسخ لفظها، أي نتركه في آخر أم الكتاب فلا يكون. وهذا قول عطاء. وقال غير عطاء: معنى أو ننسأها: نؤخرها عن النسخ إلى وقت معلوم، من قولهم: نسأت هذا الأمر إذا أخرته، ومن ذلك قولهم: بعته نسأ إذا أخرته. قال ابن فارس: ويقولون: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا، ونسأتهم أنا أخرتهم. فالمعنى نؤخر نزولها أو نسخها على ما ذكرنا. وقيل: نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر. وقرأ الباقون {ننسها{ بضم النون، من النسيان الذي بمعنى الترك، أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها، قاله ابن عباس والسدي، ومنه قوله تعالى أي ولا آمر بتركها. وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك، وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {أو ننسها {قال: نتركها لا نبدلها، فلا يصح. ولعل ابن عباس قال: نتركها، فلم يضبط. والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى {أو ننسها{ نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك، ثم تعديه. وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه، لأنه بمعنى نجعلك تتركها. وقيل: من النسيان على بابه الذي هو عدم الذكر، على معنى أو ننسكها يا محمد فلا تذكرها، نقل بالهمز فتعدى الفعل إلى مفعولين: وهما النبي والهاء، لكن اسم النبي محذوف. الخامسة عشر: قوله تعالى{نأت بخير منها{ لفظة {بخير{ هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية. وقال مالك: محكمة مكان منسوخة. وقيل ليس المراد بأخير التفضيل، لأن كلام الله لا يتفاضل، وإنما هو مثل قوله {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} قوله تعالى{ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} {ألم تعلم} جزم بلم، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل، وفتحت {أن} لأنها في موضع نصب. {له ملك السماوات والأرض} أي بالإيجاد والاختراع، والملك والسلطان، ونفوذ الأمر والإرادة. وارتفع {ملك{ بالابتداء، والخبر {له{ والجملة خبر {أن{. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. قوله تعالى{وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير{ المعنى أي قل لهم يا محمد ألم تعلموا أن لله سلطان السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي، من وليت أمر فلان، أي قمت به، ومنه ولي العهد، أي القيم بما عهد إليه من أمر المسلمين. ومعنى {من دون الله{ سوى الله وبعد الله، كما قال أمية بن أبي الصلت: وقراءة الجماعة {ولا نصير{ بالخفض عطفا على {ولي{ ويجوز {ولا نصير{ بالرفع عطفا على الموضع، لأن المعنى ما لكم من دون الله ولي ولا نصير. {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} قوله تعالى{أم تريدون{ هذه {أم{ المنقطعة التي بمعنى بل، أي بل تريدون، ومعنى الكلام التوبيخ. {أن تسألوا رسولكم{ في موضع نصب {تريدون{. {كما سئل موسى من قبل{ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر، أي سؤال كما. و{موسى{ في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. {من قبل{: سؤالهم إياه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمدا أن يأتي بالله والملائكة قبيلا. عن ابن عباس ومجاهد: سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا. وقرأ الحسن {كما سيل{، وهذا على لغة من قال: سلت أسأل، ويجوز أن يكون على بدل الهمزة ياء ساكنة على غير قياس فانكسرت السين قبلها. قال النحاس: بدل الهمزة بعيد. قوله تعالى{ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل{ والسواء من كل شيء: الوسط. قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، ومنه قوله{في سواء الجحيم}الصافات: 55]. وحكى عيسى بن عمر قال: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي، وأنشد قول حسان يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: السواء القصد، عن الفراء، أي ذهب عن قصد الطريق وسمته، أي طريق طاعة الله عز وجل. وعن ابن عباس أيضا أن سبب نزول هذه الآية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك. {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير} قوله تعالى{ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق{ فيها مسألتان: الأولى{ود{ تمنى، وقد تقدم. {كفارا{ مفعول ثان بـ {يردونكم{. {من عند أنفسهم{ قيل: هو متعلق {بود{. وقيل: بـ {حسدا{، فالوقف على قوله{كفارا{. و{حسدا{ مفعول له، أي ودوا ذلك للحسد، أو مصدر دل على ما قبله على الفعل. ومعنى {من عند أنفسهم{ أي من تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمروا به، ولفظة الحسد تعطى هذا. فجاء {من عند أنفسهم{ تأكيدا وإلزاما، كما قال تعالى الثانية: الحسد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا، وهذا النوع الذي ذمه الله تعالى في كتابه بقوله قوله تعالى{فاعفوا واصفحوا{ فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى{فاعفوا{ والأصل اعفووا حذفت الضمة لثقلها، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين. والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس. صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى الثانية: هذه الآية منسوخة بقوله قلت: وهو الصحيح، "روى البخاري ومسلم قوله تعالى{حتى يأتي الله بأمره{ يعني قتل قريظة وجلاء بني النضير. {إن الله على كل شيء قدير{ تقدم ذكره ولله الحمد.
|